سورة الإسراء - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا(94)}
أي: ما منعهم من الإيمان إلا هذه المسألة: أن يكون الرسول بشراً، هذه هي القضية التي وقفت في حلوقهم: {أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94].
والمتأمِّل في مسألة التبليغ عن الله يجد أنها لا يمكن أنْ تتم إلا ببشر، فكيف يبلغ البشر جنس آخر، ولابد للتلقِّي عن الله من وسائط بين الحق سبحانه وتعالى وبين الناس؛ لأن البشر لا يستطيع أنْ يتلقّى عن القُوة العليا مباشرة، فإذنْ: هناك مراحل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51].
لكن الرسول البشري كيف يُكلِّم الله؟ لابد أنْ نأتي برسول من الجنس الأعلى: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً..} [الحج: 75] وهذا مرحلة، ثم يصطفي رسولاً من البشر يتلقّى عن الملَكِ كي يستطيع أنْ يُبلِّغكم؛ لأنكم لا تقدرون على اللقاء المباشر يتلقى عن الملك كي يستطيع أن يبلغكم؛ لأنكم لا تقدرون على اللقاء المباشر مع الحق سبحانه.
ونضرب لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى: أنت إذا أردتَ إضاءة لمبة صغيرة وعندك تيار كهربائي عالٍ، هل يمكن أنْ تُوصِّله بهذه اللمبة؟ لا لأنها ستحرق فوراً، إذن: ما الحل؟ الحل أنْ تأتي بجهاز وسيط يُقلِّل لك هذا التيار القوي، ويعطي اللمبة على قَدْر حاجتها فتضيء.
كذلك الحق سبحانه يصطفي من الملائكة رسلاً يمكنهم التلقِّي عن الله ويصطفي من البشر رسلاً يمكنهم التلقِّي عن الملائكة، ثم يُبلّغ الرسول المصطفى من البشر بني جنسه. إذن: فماذا يُزعجكم في أنْ يكون الرسول بشراً؟ ولماذا تعترضون على هذه المسألة وهي أمر طبيعي؟
يقول تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس..} [يونس: 2].
وفي موضع آخر يقول سبحانه: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية إِذْ جَآءَهَا المرسلون إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فقالوا إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ قَالُواْ ما أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 13-15].
إذن: فاعتراضهم على بشرية الرسول أمر قديم توارثه أهل الكفر والعناد من أيام نوح عليه السلام ألم يَقُلْ له قومه: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا..} [هود: 27].
وقالوا: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34].
وقالوا: {أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 24].
لذلك يدعونا الحق سبحانه وتعالى إلى النظر في السُّنة المتبعة في الرسل: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ..} [النحل: 43].
أي: ليسوا ملائكة، لابد أنْ يكونوا رجالاً لِيتمّ اللقاء بينكم، وإلاّ فلو جاء الرسول مَلَكاً كما تقولون، هل ستروْن هذا الملَك؟ قالوا: لا هو مُستتر عنَّا، لكنه يرانا، لكن تبليغ الرسالة لا يقوم على مجرد الرؤية، فتبليغ الرسالة يحتاج إلى مخالطة ومخاطبة، وهنا لابد أنْ يتصوّر لكم الملَك في صورة رجل ليؤدي مهمة البلاغ عن الله، وهكذا نعود من حيث بدأنا؛ لأنها الطبيعة التي لا يمكن لأحد الخروج عنها.
لذلك يقول سبحانه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] إذن: لا داعي للتمحُّك والعناد، ومصادمة الفطرة التي خلقها الله، والطبيعة التي ارتضاها لخَلْقه.
ثم يقول الحق سبحانه: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً}.


{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا(95)}
{قُلْ} أي: رَدَّاً عليهم: لو أن الملائكة يمشون في الأرض مطمئنين لَنزَّلنا عليهم مَلَكاً رسولاً لكي يكون من طبيعتهم، فلابد أنْ يكون المبلِّغ من جنس المبلَّغ، وهذا واضح في حديث جبريل الطويل حينما جاء إلى رسول الله يسأله عن بعض أمور الدين لِيُعلم الصحابة: ما الإحسان؟ ما الإيمان؟ ما الإسلام. فيأتي جبريل مجلس رسول الله في صورة رجل من أهل البادية، وبعد أنْ أدَّى مهمته انصرف دون أنْ يشعر به أحد، فلما سألوا عنه قال لهم رسول الله: (إنه جبريل، أتاكم لِيُعلِّمكم أمور دينكم).
شيء آخر يقتضي بشرية الرسول، وهو أن الرسول أسوة سلوك لقومه، كما قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..} [الأحزاب: 21].
وبالله، كيف تتم هذه الأسوة؟ وكيف يقتدي الناس بها إنْ كان الرسول مَلَكاً؟
فالرسول عندما يُبلِّغ منهج الله عليه أنْ يُطبّق هذا المنهج في نفسه أولاً، فلا يأمرهم أمراً، وهو عنه بِنَجْوَة، بل هو إمامهم في القول والعمل.
لذلك فالحاكم الحق الناصح يُطبّق القانون عليه أولاً، فكان سيدنا عمر رضي الله عنه إذا أراد أن يُقنّن قانوناً ويرى أنه سيتعب بعض الظالمين والمنحرفين فيجمع أهله ويخبرهم بما أراد، ثم يُحذّرهم من المخالفة: (فو الذي نفسي بيده، مَنْ خالفني منكم إلى شيء لأجعلنّه نكَالاً للمسلمين، وأنا أول مَنْ أُطبِّقه على نفسي).
لذلك حكم عمر الفاروق الدنيا كلها في عصره، ولما رآه الرجل نائماً مطمئناً تحت شجرة قال قولته المشهورة: (حكمتَ، فعدلْتَ، فأمنت، فنمْتَ يا عمر) وعمر ما حكم الدنيا والبشر، بل حكم نفسه أولاً فحُكمت له الدنيا؛ لأن الحاكم هو مركز الدائرة، وحَواليْه دوائر أخرى صغيرة تراه وتقتدي به، فإنْ رأوه مستقيماً استقاموا، ولم يجرؤ أحد منهم على المخالفة، وإنْ رأوْه منحرفاً فاقوه في المخالفة، وأفسدوا أضعاف ما يُفسد.
لذلك، لا يمكن أبداً لحاكم أن يحكم إلا إذا حكم نفسه أولاً، بعدها تنقاد له رعيته ويكونون طوعاً لأمره دون جهد منه أو تعب.
ولقد رأينا في واقعنا بعض الحكام الذين فهموا الأُسْوة على حقيقتها، فترى الواحد من رعيته يركب أفخم السيارات، ويسكن أعظم القصور، حتى إن معظم أدواتها تكون من الذهب، في حين ترى هذا الحاكم يعيش عيشة متواضعة وربما يعيش في قصر ورثه عن أبيه أو جَدَِّه، وكأنه يُغلِظ على نفسه ويبغي الرفاهية لرعايته.
وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتى بمنهج، وهو في الوقت نفسه أُسْوة سلوك وقُدْوة، فنراه صلى الله عليه وسلم يحثّ الغنيّ على الصدقة للفقير، ثم يحرم أهل بيته من هذه الصدقة فلا يقبلها لهم، وإنْ توارث الناس فيما يتركونه من أموال فإن ما تركه الرسول لا يُوَرَّثُ لأهله من بعده، بل هو صدقة لفقراء المسلمين، وهكذا يحرم رسول الله أهل بيته مما أعطاه للآخرين لتكون القدوة صحيحة، ولا يجد ضعاف النفوس مأخذاً عليه صلى الله عليه وسلم.
إذن: فليس المراد من الحكم أن يتميز الحاكم عن المحكوم، أو يفضل بعض الرعية على بعض، فإذا ما أحسَّ الناس بالمساواة خضعوا للحاكم، وأذعنوا له، وأطاعوا أمره؛ لأنه لا يعمل لمصلحته الشخصية بل لمصلحة رعيته، بدليل أنه أقلُّ منهم في كُلِّ مستويات الحياة.
فالرسول إنْ جاء مَلَكاً فإن الأُسْوة لا تتمّ به، فإنْ أمرنا بشيء ودعانا إلى أن نفعل مثله فسوف نحتجّ عليه: كيف وأنت مَلَكٌ لا شهوةَ لك، لا تأكل ولا تشرب ولا تتناكح ولا تتناسل، إن هذه الأوامر تناسبك أنت، أما نحن فلا نقدر عليها.
ومن هنا لابد أن يكون الرسول بشراً فإنْ حمل نفسه على منهج فلا عُذْر لأحد في التخلُّف عنه؛ لأنه يطبق ما جاء به ويدعوكم إلى الاقتداء بسلوكه.
وسبق أنْ ضربنا لذلك مثلاً وقُلْنا: هَبْ أنك رأيتَ في الغابة أسداً يصول ويجول ويفتك بفريسته، بالله هل يراودك أن تكون أسداً؟ إنما لو رأيتَ فارساً على صَهْوة جواده يصول ويجول ويحصد رقاب الأعداء، ألاَّ تتطلع إلى أن تكون مثله؟
إذن: لا تتمّ القُدْوة ولا تصح إلا إنْ كان الرسول بشراً، ولا داعي للتمرُّد على الطبيعة التي خلقها الله.
ثم يقول الحق سبحانه: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً...}.


{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(96)}
{قُلْ} أي: رَدّاً على ما اقترحوه من الآيات وعلى اعتراضهم على بشرية الرسول: {كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ..} [الإسراء: 96].
والشهيد إنما يُطلَب للشهادة في قضية ما، فما القضية هنا؟ القضية هي قضية تعنُّت الكفار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم طلبوا منه مَا ليس في وُسْعه. والرسول لا يعنيه المتعنتون في شيء؛ لأن أمره مع ربه عز وجل؛ لذلك قال: {كفى بالله شَهِيداً..} [الإسراء: 96].
فإنْ كانت شهادة الشاهد في حوادث الدنيا تقوم على الإخبار بما حدث، وعليها يترتب الحكم فإن شهادة الحق سبحانه تعني أنه تعالى الشهيد الذي رأى، والحاكم الذي يحكم، والسلطة التنفيذية التي تنفذ.
لذلك قال: {كفى بالله شَهِيداً..} [الإسراء: 96].
فهو كافيك هذا الأمر؛ لأنه كان بعباده {خَبِيراً} يعلم خفاياهم ويطّلع على نواياهم من وراء هذا التعنُّت {بَصِيراً} لا يخفي عليه شيء من أمرهم.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ..}.

28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35